شرح كتاب النكاح من صحيح البخاري
باب: الأكفاء في الدين
باب الأكفاء في الدين وقوله: رسم> وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا قرآن> رسم> .
قال أبو عبد الله اسم> حدثنا أبو اليمان اسم> قال: أخبرنا شعيب اسم> عن الزهري اسم> قال: أخبرني عروة بن الزبير اسم> عن عائشة اسم> -رضي الله تعالى عنها- رسم> أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس اسم> وكان ممن شهد بدرا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- تبنى سالما اسم> وأنكحه بنت أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة اسم> وهو مولى لامرأة من الأنصار كما تبنى النبي -صلى الله عليه وسلم- زيدا اسم> وكان من تبنى رجلا في الجاهلية دعاه الناس إليه وورث من ميراثه، حتى أنزل الله رسم> ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ قرآن> رسم> إلى قوله: رسم> وَمَوَالِيكُمْ قرآن> رسم> فردوا إلى آبائهم فمن لم يعلم له أب كان مولى وأخا في الدين فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي ثم العامري اسم> وهي امرأة أبي حذيفة بن عتبة اسم> جاءت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول إنا كنا نرى سالما اسم> ولدا، وقد أنزل الله فيه ما قد علمت متن_ح> رسم> فذكر الحديث .
قال أبو عبد الله اسم> حدثنا عبيد بن إسماعيل اسم> قال: حدثنا أبو أسامة اسم> عن هشام اسم> عن أبيه عن عائشة اسم> -رضي الله تعالى عنها- أنها قالت: رسم> دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ضباعة بنت الزبير اسم> فقال: لها لعلك أردت الحج قالت: والله لا أجدني إلا وجعة فقال لها: حجي واشترطي قولي: اللهم محلي حيث حبستني وكانت تحت المقداد بن الأسود اسم> متن_ح> رسم> .
قال أبو عبد الله اسم> حدثنا مسدد اسم> قال: حدثنا يحيى اسم> عن عبيد الله اسم> قال حدثني سعيد بن أبي سعيد اسم> عن أبيه عن أبي هريرة اسم> -رضي الله تعالى- عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: رسم> تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك متن_ح> رسم> .
قال أبو عبد الله اسم> حدثنا إبراهيم بن حمزة اسم> قال: حدثنا ابن أبي حازم اسم> عن أبيه عن سهل اسم> رضي الله عنه قال: رسم> مر رجل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حري إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع وإن قال أن يستمع قال: ثم سكت فمر رجل من فقراء المسلمين فقال: ما تقولون في هذا قالوا: حري إن خطب أن لا ينكح وإن شفع أن لا يشفع وإن قال أن لا يستمع فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا خير من ملء الأرض مثل هذا متن_ح> رسم> .
قال الله تعالى: رسم> أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ قرآن> رسم> يعني: إن الناس كلهم بنو آدم وأن الفضل والشرف إنما هو بالتقوى، وأن الكفاءة تكون بتقوى الله تعالى؛ فالأكفاء هم الأوفياء والأتقياء ولا يغرهم نسبهم ولا أصلهم؛ فإنه ورد أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الفخر والافتخار بالأصول وبالأجداد وبالأنساب وبالأحساب، فقال -صلى الله عليه وسلم- رسم> لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم من فحم جهنم متن_ح> رسم> يعني يفتخرون بأجداد لهم كانوا ماتوا في الجاهلية بشجاعتهم وبشرفهم وبجودهم وبكرمهم وغير ذلك، فأخبروا بأنهم لا ينفعهم فخرهم، وإنما الفخر والاعتزاز بتقوى الله تعالى وبالإيمان به وبالعمل الصالح وبالعلم النافع.
وكذلك في هذا الباب أن الصحابة كانوا يزوجون الموالي الذين كانوا مماليك ثم عتقوا، فلا يرون بأسا أن يزوجوهم، فمن ذلك أبو حذيفة اسم> من المهاجرين ومن قريش امرأته سهلة اسم> أيضا امرأة ذات حسب، تبنى مولى يقال له سالم اسم> من الموالي، يعني ضمه إليه وجعله ابنه، ويسمى مولى له، فكذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- أعتق زيد بن حارثة اسم> وتبناه فكان يقال زيد اسم> بن محمد اسم> فكانوا يدعون لمن تبناهم حتى أنزل الله تعالى: رسم> مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ قرآن> رسم> وأنزل قوله تعالى: رسم> فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا قرآن> رسم> .
بل قال الله تعالى: رسم> ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ قرآن> رسم> .
لما نزلت: رسم> ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ قرآن> رسم> وكانوا يدعون زيدا اسم> زيد اسم> ابن محمد اسم> فقال: أنا زيد بن حارثة اسم> يعني: انتسب إلى أبيه، وأما سالم اسم> فلم ينتسب إلى أبيه فكان يقال: مولى أبي حذيفة اسم> فهو مولى، ومع ذلك زوجه أبو حذيفة اسم> ابنته مع كونه من الموالي الذين عتقوا، وهذا دليل على جواز تزويج الموالي ولو كانت الزوجة من قريش أو من الأعراب.
وكذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- زوج زيدا اسم> لابنة خالته التي هي زينب بنت جحش اسم> زوجه بها، ثم إنه طلقها، ولما طلقها زوجها الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- حتى لا يتحرج أحد أن يتزوج بزوجة دعيه رسم> لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا قرآن> رسم> .
فتزويجه لزينب اسم> دليل على تزويج الموالي، كذلك أيضا قصة ضباعة بنت الزبير اسم> وهي بنت عم النبي -صلى الله عليه وسلم- وكانت أيضا من المهاجرات زوجة للمقداد بن الأسود اسم> هكذا يعرف أنه ابن الأسود اسم> ومع ذلك هي من قريش، ولم يمنعها كونها من أشراف قريش أن تتزوج بالمقداد بن الأسود اسم> .
لما دخل عليها -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع، قالت: إني أريد الحج وأجدني شاكية فقال لها: رسم> حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني فإن لك على الله ما استغنيت متن_ح> رسم> فالشاهد أنها زوجة للمقداد اسم> مع كونها من أشراف قريش وبنت عم النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يضرها ذلك، وكذلك أيضا قصة سهلة اسم> لما دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وذكرت أنهم يرون سعدا اسم> ابنًا يعني كأنه أحد أولادهم، فمع ذلك أباح له أن يتزوج ابنته؛ ابنة أبي حذيفة اسم> أو أخته مع كونه من الموالي.
وكذلك أيضا الحديث الذي سمعناه قوله -صلى الله عليه وسلم- رسم> تنكح المرأة لأربع متن_ح> رسم> يعني رغبات الناس يرغبون في المرأة إحدى هذه الأربع خصال؛ إما لمالها إذا كانت غنية أو من قوم أثرياء، وهذا قد لا ينفعه، قد تفتخر عليه، وإما لجمالها، فكونها ذات جمال، يعني حسنة الخلق والخلقة ونحو المظهر، وهذا أيضا قد لا يفيده كثيرا وقد تكون سيئة الخلق.
أو لحسبها؛ يعني شرف أهلها وفخرهم وشهرتهم ومكانتهم وآثارهم وأفاعلهم، وكثيرا ما يكون من الزوج يقصد أن يتزوج من ابنة ذوي الشرف وذوي الشهرة والشجاعة والكرم والإقدام، وهذا أيضا قد يفسدها عليه، قد تفتخر عليه.
وإنما تنكح لدينها؛ لذلك قال: رسم> فاظفر بذات الدين تربت يداك متن_ح> رسم> أي احرص على أن تتزوج الدينة الصالحة المستقيمة التي يحجزها دينها عن معصية الله تعالى، ويحملها على طاعة الله وعلى خدمة زوجها وعلى طاعته.
فكل هذا يعتبر الأدلة على استحباب الدينة مهما كانت، ولو كانت من الموالي، ثم إن عادة كثير من الناس أن يترفعوا عن تزويج الموالي الذين كان لهم نسب قديم من الموالي يعني أن أصلهم كانوا من غير العرب أو كانوا من العتقاء، ويحتجون بحديث غير صحيح أنه في الحديث رسم> العرب بعضهم أكفاء بعض والموالي بعضهم أكفاء بعض رسم> ولكن الحديث ضعيف وقد يحتجون بما روي عن عمر اسم> أنه قال: لأمنعن ذوات الأحساب أن لا يتزوجوا إلا من الأكفاء.
ذوات الأحساب يعني أهل الحسب وأهل النسب وأهل الشرف ألا يتزوجوا إلا من الأكفاء، ولكن لعل عمر اسم> -رضي الله عنه- يريد بذلك من ليس كفئًا أن يزوج؛ إذا كان مثلا عاصيا أو فاسقا أو متظاهرا بأعمال سيئة أو ما أشبه ذلك، وأما الحرف والصناعات فقد اعتبرها بعضهم شرطا فقال: ابنة ذوي الشرف لا يتزوجها صاحب صنعة رديئة كحجام أو دباغ أو حائك أو زبال أو ما أشبه ذلك، وهكذا يرى بعضهم.
ولكن لعل هذا لا يقدح في عدالته ولا يقدح في دينه، فإذا سلم دينه فلا مانع من أن يزوج ولو ببنت الأكفاء أو الأوفياء أو الشرفاء أو ما أشبه ذلك، فإن شرف الإنسان بدينه.
يقول الشاعر:
لعمرك ما الإنســان إلا بدينـه | فلا تترك التقوى اتكالا على النسب |
فقد رفـع الإسـلام سلمان اسم> فارس | وقد وضع الشـرك الشـقي أبا لهب اسم> |
ويقول الآخر:
ألا إنما التقوى هي العـز والكـرم | وحبك للدنيا هو الذل والسقــم |
ولــيس على عبد تقي نقيـصـة | إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم |
فأما إذا كان فقيرا فالله تعالى وعد بأنه يغنيه، ومع ذلك إذا أعسر بالنفقة وعجز عن الوفاء بها فلها طلب الفسخ، هكذا ذكر كثير من العلماء؛ لأن عليها مشقة أن تبقى ولا ينفق عليها؛ يمسها الجوع والجهد والعري، من أين تأكل، ومن أين تنفق على نفسها.
وكثير من العلماء يقولون: ليس لها طلب الفسخ، بل تصبر كما يصبر زوجها، ويؤمر هو وتؤمر هي بالتماس الرزق وبالاكتساب ولو حرفة دنيئة، ولو أن يتكسب بحرفة دنيئة؛ كأن يكون مثلا حلاقا أو غسالا أو حجاما أو دباغا؛ يعني ولو حرفة فيها شيء من الدناءة فإنه يكتسب بذلك ما يقوت به نفسه وما يقوت به أهله؛ فعلى هذا لا يقدح في الزوج إلا إذا كان فيه قدح ديني.
فأما من حيث النسب فالعادات متبعة في أكثر هذه البلاد أن الموالي يزوج بعضهم بعضا، وأن العرب الذين أصلهم من العرب يزوج بعضهم بعضا، ومع ذلك فإن الشرع لا يمنع أن يتزوج المولى بالعربية أو بالعكس، فإن الكفاءة كما ذكرنا إنما هي بتقوى الله تعالى.
سمعنا الحديث الأخير فيه أنه مر على النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل من أثرياء الناس ومشاهيرهم، فسأل الحاضرين: ما تقولون في هذا؟ فأخبروه بأنه من أشراف الناس وأثريائهم، ووصفوه بأنه حري -أي جدير- إذا خطب أن ينكح؛ يزوج وإذا تكلم أن يسمع له، إذا تكلم في مجلس أصغى الناس له، وإذا شفع في أحد قبلت شفاعته، ولعل ذلك أنه من الأثرياء ومن مشاهير الناس، الناس عادة يميلون إلى أصحاب الأموال:
رأيت النـاس قـد مـالــــوا | إلى من عنــده مـــــــال |
رأيت الناس قـد ذهـبـــوا | إلى من عنـده ذهـــــــب |
أجـلك قوم حين صـرت إلى الغنى | وكل غني في العيون جلـيــل |
إذا مالت الدنيا إلى المرء رفضـت | إليه ومال الناس حيث تـمـيـل |
وليس الغنى إلا غنى زين الفـتى | عشية يقري أو غداة ينـيـــل |
بعد ذلك مر رجل آخر من فقراء الناس فقال لهم: ما تقولون في هذا؟ فقالوا: هذا من فقراء الناس ومن ضعفائهم، من المساكين ومن ذوي الحاجات، حري أنه إذا خطب لا يزوج؛ لأنه ليس ذا مال، وإذا شفع لا تقبل شفاعته لعدم شهرته وعدم مكانته، وإذا تكلم وقال لا يسمع قوله، فوصفوه بهذه الصفات فقال -صلى الله عليه وسلم- هذا؛ يعني هذا الضعيف الفقير خير من ملء الأرض مثل هذا؛ يعني أفضل عند الله تعالى؛ وذلك لأن الفضل عند الله إنما هو بالتقوى وبالعمل الصالح، فتفاضل الناس ومكانتهم إنما تكون بالعمل الصالح والعلم النافع الذي يرفع الله تعالى به أهله.
مسألة>